سأَحْمِلُ رُوحِي عَلَى راحَتِي وأُلْقِي بها في مَهاوِي الرَّدَى
فــــــإما حياةٌ تَسُـُّر الصَّـديْقَ وإمَّــــــــا مَمـاتٌ يَغِيْـظُ العِدا
كتب الشاعر عبد الرحيم محمود هذه الأبيات في قصيدة شهيرة اسمها (الشهيد) وعمره أربعة وعشرون عامًا تقريبًا.. وظلت كلماته هذه وعدًا ملتزمًا به فحمل روحه على راحته وألقى بها في مهاوي الردى دفاعًا عن وطنه.. وشارك في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م لثلاث سنوات مشتعلة، ثم شارك في الحرب العربية على إسرائيل بعد رفض العرب قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الصادر يوم 29 نوفمبر 1947م، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، وإعلان دولة إسرائيل يوم 15 مايو 1948م، واستشهد في معركة الشجرة يوم 13 يوليو 1948م، وأصبح عبد الرحيم مثلاً أعلى يفعل ما يقول، فعاش إلى الآن يَسُرُّ الأصدقاء، ويغيظ الأعداء كما كتب في قصيدته تمامًا.
ولد عبد الرحيم محمود عبد الرحيم عام 1913م في قرية "عنبتا" التابعة لقضاء "طولكرم" بفلسطين، ودرس المرحلة الابتدائية في عنبتا وطولكرم، ثم انتقل إلى مدينة نابلس للدراسة الثانوية بمدرسة النجاح الوطنية من عام 1928م حتى 1933م، وتتلمذ في هذه المدرسة على الشاعر إبراهيم طوقان والأساتذة د. محمد فروخ، وأنيس الخولي، وقدري طوقان.. فتشرب منهم حب المعرفة والاعتزاز بالنفس والوطن والثورة على الظلم.. وعُيِّن بعد تخرجه مدرسًا للغة العربية وآدابها..
في عام 1935م حضر من سوريا الشيخ عز الدين القَسَّام؛ ليشارك في الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين وعمره أربعة وستون عامًا، واعتصم بالجبل مع رفاقه من مِصْر وفلسطين، وظلوا يناوشون جنود الإنجليز حتى اسْتُشْهِد الشيخ السوري يوم 20 نوفمبر 1935م.. فأصبح الشيخ عز الدين القَسَّام مثلاً أعلى للمقاومة وإرهاصًا للثورة التي بدأت بإضراب يوم 20 أبريل 1936م، فانخرط فيها الشاعر الشاب عبد الرحيم محمود ونذر نفسه للوطن، فاستقال من مدرسة النجاح وعَبَّر عن موقعه في إحدى قصائده قائلاً:
إن الألى سلبوا الحقوق لئامُ واغْصِبْ حُقوقَك قَطُّ لا تَسْتَجْدِها
قَــدْ سـَارَها مِنْ قَبْلِكَ القَسَّامُ هذي طَرِيْقُكَ فِي الحَياة فلا تَحِـدْ
ولما خمدت الثورة عام 1939م لم يحتمل البقاء في فلسطين تحت نير الاحتلال الإنجليزي والعصابات الصهيونية؛ فهاجر إلى العراق وظل بها ثلاث سنوات عمل خلالها مدرسًا للغة العربية، والتحق بالكلية الحربية ببغداد، وتخرج ضابطًا برتبة الملازم أيام الملك غازي بن فيصل بن الحسين، وشارك مع المجاهدين العرب في ثورة رشيد غالي الكيلاني في العراق.
ولما هدأت الأوضاع في فلسطين لانشغال إنجلترا بالحرب العالمية الثانية عاد عبد الرحيم إلى بلده واستأنف العمل معلمًا بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس.
وبصدور قرار تقسيم فلسطين اشتعل الموقف؛ فقرَّر شاعِرُنا أن يصل إلى آخر مدى من أجل تحرير وطنه، فتوجه إلى بيروت في يناير 1948م، ثم إلى الشام ليتلَقَّى تدريبات عسكرية على القتال وانضم إلى جيش الإنقاذ، ودخل إلى منطقة بلعا بفلسطين واشترك في معركة بيار عدس مع سَرِيَّة من فوج حِطِّين، وشارك في معركة رأس العين، وفي إبريل 1948م عُيِّن آمرًا للانضباط في طولكرم، ثم مساعدًا لآمر الفوج في الناصرة.. وأخيرًا قاتل ببسالة في معركة الشجرة حتى اسْتُشْهِدَ فيها يوم 13 يوليو 1948م وعمره خمسة وثلاثون عامًا.
و(الشجرة) قرية عربية تابعة لطبرية، وقد انشأ الإسرائيليون بجوارها مستعمرة اسمها (السجرة) بالسين، وكانت منطقة ساخنة تدور فيها معارك كثيرة بين سكان الشجرة المسلمين والمسيحيين وبين اليهود بالسجرة.
ودُفِنَ عبد الرحيم محمود في (الناصرة) مُخَلِّفًا زوجته وابنيه (الطيب) و(طلالًا) وابنته رقيَّة، وأعمارهم بين الأربعة أعوام والعام الواحد..
كما خَلَّف عددًا من القصائد كتبها بين عامي 1935م، 1948م.. جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية.. وصدر ديوانه في عَمَّان عام 1958م وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة.. هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح..
وفي عجالة نلقي ضوءًا على آرائه الوطنية التي صاغها شعرًا وعاشها حياة، فاستحق أن يكون مثلاً أعلى لشباب فلسطين في الكفاح والصدق..
في 14 أغسطس 1935م زار قرية عنبتا الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية (الملك سعود فيما بعد)، فألقى عبد الرحيم بين يديه قصيدة وكان عمره اثنين وعشرين عامًا قال فيها:
ضُمَّت على الشَّكوى المريرة أَضْلُعُهْ يا ذا الأمير أمام عَيْنِـك شاعـــرٌ
أم جئـــــت من قِبَلِ الضِّبَـاع تُوَدِّعُهْ؟ المَسجد الأقصى أَجِئْتَ تَزُورُه؟
ولكـــــــــــــــلِّ أَفَّــاقٍ شـَرِيدٍ، أَرْبُعُه حَـَرمٌ مُبـاحُ لكــــــل أَوْكَعَ آبقٍ
دَمْـــــــــــعٍ لنـا يَهْمَـي وَسِـنٍّ نَقْرَعُه وغدًا وما أدناه، لا يبقى سوى
(أَوكع = لئيم، آبق = هارب)
وهنا يتضح بُعْدُ نظر الشاعر الشاب ورؤيته الواقعية للظروف العربية شعوبًا وحكامًا.
وفي قصيدته (الشهيد) وكان عمره حوالي أربعة وعشرين عامًا يُصَوِّرُ الشهيد كما يتمنَّاه:
ونـــــــفس الشـريف لها غـايتان ورود المنـايا ونيـلُ المنى
لعمـــــرك إنـي أرى مصرعي ولكـن أَغُـذُّ إليـه الخطى
أرى مــقتلي دون حقي السليب ودون بلادي هـو المُبتـغى
يَلَذُّ لأذني ســــــــماع الصليـــل يُهَيِّجُ نَفْسِي مَسِـيلُ الدِّمـا
وجسـمٌ تَجــَدَّلَ فوق الـهضــاب تُنَاوِشُـه جَـارِحات الفَـلا
فمنـه نصيـبٌ لِأُسْـِد السَّـــــــما ومنه نصيب لأسـد الشَّرَى
كسـا دَمُهُ الأرضَ بالأُرْجــُوَان وأثقل بالعطر رِيْـحَ الصَّـبا
وعَفَّـر منـه بَهِـيَّ الجَـِـــــــبـين ولكن عُفـارًا يـزيـد البَـها
وبَانَ علـى شَفَتَـْيه ابْتــــــــسام مَعـانِيْهِ هُـزْءٌ بِهـذِي الدُّنـا
ونام لِيَحْـلُمَ حُلْـمَ الخــــــــــُـلودِ ويَهْنَـَأ فيـه بِـأحْلَى الرُّؤى
لعَمْرُكَ هذا ممـات الرجــــال ومن رَامَ موتـًا شـريفًا فَذَا
وقد اختار الشاعر قافية المَدِّ أيًّا كان الحرف الأخير لهذه القصيدة الرائعة التي تصور ممات الرجال الشرفاء من أجل الوطن، فالتلذذ بأصوات المدافع والبهجة بإسالة الدماء تُهَوِّن على الشرفاء الموت من أجل قضية كبرى يُدافِع عنها ألا وهي تحرير البلاد والاحتفاظ بكرامتها..
وفي قصيدته (دعوة إلى الجهاد) يقول مستهترًا بالموت فداء للوطن:
فَخَفَّ لِفَرْطِ فَرْحَتِه فؤادي
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد
أَلَيْسَ عليّ أن أَفْدِي بِلادِي
وَسابَقْتُ النَّسِيمَ ولا افتخارٌ
وما حَمَّلتُها إلا عتادي
حَمَلْتُ عَلَى يَدِيْ رُوحي وقلبي
تَصُبُّ على العِدَا في كل وادِ
فسِيْرُوا للنِّضَالِ الحقِّ نارًا
عن الجَلَّى وموطنه ينادي
فليس أَحَطُّ من شَعْبٍ قَعِيْد
وتظل قصائد عبد الرحيم محمود تتوالى مُعَبِّرَةً عن حبه لوطنه وإصراره على التضحية من أجله..