وقد تلقف المشرع المصري هذا القول وبنى عليه حكم الوصية الواجبة بقوة القانون، فنص في المادة من قانون الوصية رقم الصادر سنة «إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو معه ولو حكماً بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثاً في تركته لو كان حياً عند موته، وجبت للفرع وصية بقدر هذا النصيب في حدود الثلث بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه أقل وجبت الوصية بقدر ما يكمله، وتكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات وأولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره ويقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل قسمة الميراث»
وقد يخطئ كثير من الناس في فهم هذا الأمر ويخلط بين الوصية وبين الميراث ويعتقد هؤلاء أن الأحفاد يرثون على خلاف ما هو معلوم بالضرورة من دين الله عز وجل من أن الأبناء يحجبون الأحفاد في الميراث وهذا الاعتقاد غير صحيح، فالقانون قد أوجب لهؤلاء الأحفاد وصية بناء على اجتهاد معتبر لبعض أهل العلم ولم يوجب لهم حقًا في الميراث على خلاف شرع الله عز وجل
وقد سألت الشيخ صالح بن حميد حفظه الله عمن يقولون إن هذا القانون مخالف للشريعة فقال بل هو اجتهاد معتبر ولولي الأمر أن يلزم الناس باجتهاده
الثلث والثلث كثير
قال ابن عبد البر وأجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه إذا ترك ورثة من بنين أو عصبة
واختلفوا إذا لم يترك بنين ولا عصبة ولا وارثًا بنسب أو نكاح، فقال ابن مسعود إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله، وعن أبي موسى الأشعري مثله، وقال بقولهما قوم منهم مسروق وعبيدة السلماني وبه قال إسحاق بن راهويه واختلف في ذلك قول أحمد ذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يقول بقول زيد بن ثابت في هذه المسألة ومن حجتهم أن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء وهذا لا ورثة له فليس ممن عني به الحديث والله أعلم
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى أجاز وصية امرأة بمالها كله لم يكن لها وارث
وعن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال لي ابن مسعود إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت ولا يدع عصبة ولا رحما فما يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال «إذا مات الرجل وليس عليه دين لأحد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء» وعن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق مثله
وقال زيد بن ثابت لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه كان له بنون أو ورث كلالة أو ورثه جماعة المسلمين لأن بيت مالهم عصبة من لا عصبة له وبهذا القول قال جمهور أهل العلم وإليه ذهب جماعة فقهاء الأمصار
وأجمع فقهاء الأمصار أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت وإن لم يجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث
وقال أهل الظاهر إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز أجازها الورثة أم لم يجيزوها، وهو قول عبد الرحمن بن كيسان وإلى هذا ذهب المزني لقول رسول الله لسعد حين قال له أوصي بشطر مالي؟ قال «لا» ولم يقل له إن أجازه ورثتك جاز، وكذلك قالوا إن الوصية للوارث لا تجوز أجازها الورثة أو لم يجيزوها لقول رسول الله «ولا وصية لوارث» وسائر الفقهاء يجيزون ذلك إذا أجازها الورثة ويجعلونها هبة مستأنفة من قبل الورثة في الوجهين جميعًا منهم مالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، وفي قول رسول الله الثلث كثير« دليل على أنه الغاية التي إليها تنتهي الوصية وإن ذلك كثير في الوصية وأن التقصير عنه أفضل، ألا ترى إلى قول رسول الله بعقب قوله «الثلث كثير، «ولأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» فاستحب له الإبقاء لورثته
وكره جماعة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال «إذا كان ورثته قليلاً وماله كثيرًا فلا بأس أن يبلغ الثلث في وصيته واستحب طائفة منهم الوصية بالربع روى ذلك عن ابن عباس وغيره
وقد روى عن أبي بكر الصديق أنه كان يفضل الوصية بالخمس وبذلك أوصى وقال رضيت لنفسي ما رضى الله لنفسه كأنه يعني خمس الغنائم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله قال «الثلث والثلث كثير» فليتهم نقصوا إلى الربع
وقال قتادة الثلث كثير والقضاة يجيزونه والربع قصد وأوصى أبو بكر بالخمس
الوصية للأقارب وغيرهم
قال في «التمهيد» ولا خلاف بين العلماء أن الوصية للأقارب أفضل من الوصية لغيرهم إذا لم يكونوا ورثة وكانوا في حاجة، وكذلك لا خلاف علمته بين العلماء في جواز وصية المسلم لقرابته الكفار لأنهم لا يرثونه وقد أوصت صفية بنت حيي لأخ لها يهودي، واختلفوا فيمن أوصى لغير قرابته وترك قرابته الذين لا يرثون، فروي عن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف، وروي عن عائشة أنها أوصت لمولاة لها بأثاث البيت، وروي عن سالم مثل ذلك قال الضحاك إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاووس من أوصى فسمى غير قرابته وترك قرابته محتاجين ردت وصيته على قرابته، ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه وهو مشهور عن طاووس، وروي عن الحسن البصري مثله، وقال الحسن أيضا وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته فإنه يرد إلى قرابته ثلثاً الثلث ويمضي ثلثه
وقال مالك وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين أو غير محتاجين جاز ما صنع وبئسما فعل، وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عمر وعائشة وابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وجمهور أهل العلم واحتج الشافعي وغيره في جواز الوصية لغير الأقارب بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد له عند موته في مرضه لا مال له غيرهم فأقرع رسول الله بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، فهذه وصية لهم في ثلثه لأن أفعال المريض كلها وصية في ثلثه وهم لا محالة من غير قرابته وحسبك بجماعة أهل الفقه والحديث يجيزون الوصية لغير القرابة وفي ذلك ما يبين لك المراد من معاني الكتاب وبالله العصمة والتوفيق
صيغة الوصية
أ&&& عبد الرزاق بسند صحيح أن أنسًا رضي الله عنه قال كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان بن فلان أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثم يوصي بما يوصي به من مال والله أعمل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين