يحكي لنا التاريخ أن اليهود عاثوا فساداً في مدينة القدس بعد النبيين داود وسليمان عليهما السلام زمناً طويلاً ، حيث أقاموا التماثيل الوثنية وعبدوها في المدينة المقدسة ، وقتلوا فيها الأنبياء ، وملؤوا أرض المدينة بالرجس والزنا والموبقات ، ولم يرعوا أي حرمة لله ورسله ولآيات التوراة التي أنزلت لهدايتهم .
ودار الزمان دورته وعاد اليهود للإفساد مرة أ&&& ، ففي صبيحة اليوم السابع من شهر حزيران عام 1967م وصلت طلائع القوات الإسرائيلية إلى حائط البراق ودخلت ساحات المسجد الأقصى وهتف الجنود مع قائدهم موشى ديان : ( يا لثارات خيبر ، هذا يوم بيوم خيبر ، حط المشمش على التفاح دين محمد ولى وراح ) واحتفلوا بهذا النصر وعربدوا وشربوا الخمر في ساحات المسجد الأقصى ، وهكذا أصبح المسجد الأقصى منذ ذلك اليوم يخضع للاحتلال الصهيوني ، لتبدأ أكبر عملية لتهويد المدينة وفصلها عن أصلها الإسلامي والعربي .
إذا كانت قضية فلسطين هي القضية المحورية والمركزية للعرب والمسلمين في الزمن المعاصر ، فإن قضية القدس هي محور هذه القضية ومركزها ، فهي مركز المركز ومحور المحور ، وما هذا إلا لأن تلك المدينة هي ثالث أقدس أرض بعد الحرمين الشريفين ، ولقد استمدت قداستها من وجود أرض المسجد الأقصى فيها ، ذلك المسجد الذي بارك الله حوله .
واليوم تتعرض مدينة القدس لأكبر حملة لتهويدها وتغيير معالمها وذلك بطرد سكانها الأصليين عنها من خلال هدم بيوتهم بحجة عدم الترخيص ، ومصادرة أراضيهم من جهة ، ومن جهة أ&&& محاصرتها بآلاف الكتل الاستيطانية ابتداءً من الاستيطان في منطقة جبل (أبو غنيم) ، بحيث تشرف على الطريق الذي يصل بين القدس الشرقية ومدينة بيت لحم ، وكانت قد تمت مصادرة الأراضي في تلك لمنطقة عام 1991م ، ومستوطنة (أبو غنيم) يمكن أن تتسع لنحو 25 ألف مستوطن يهودي ، فهي حي كامل وليست مجرد مستوطنة صغيرة .
وكان آخر هذه الحملات ما أعلنته وزارة الاسكان الصهيونية قبل يومين من إقامة 1420وحدة سكنية في مدينة القدس وضواحيها.
ولكن بالرغم من كل ما يحدث ، نقول : لا .. لن تضيع القدس ولن يستمر ضياعها ، فرغم كل مظاهر القتامة والعتامة التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم والمستقبل الغامض المأزوم ، ورغم تكدس معالم الفشل العربي سياسيّاً وعسكريّاً وعقائديّاً وقانونيّاً في ظل العلمانية المتسلطة المنهزمة .. رغم كل هذا : فإننا نرى من وراء ذلك فتحاً قريباً ، توهجت أنواره ، لتكشف عن رايات أمل تخفق في سماء مدينة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام ) . ليس هذا تحدثاً من منطق السياسة القاصرة ، ولا من منطلق خرافة ذاهلة ، ولا هو من معطيات الواقع المرير ، ولكنها روح من الأمل الدافع للعمل ، الذي تغرسه فينا أهل الإسلام حقائق الوحي ، وهدايات النبوة الخاتمة .
نعم : لن تضيع القدس ؛ لأن الله الذي كرمها بسكن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، لن يديمها سكناً لقتلة الأنبياء ، والأرض التي كان لها شأنها وقداستها في الزمان الأول ، سيظل لها الشأن والقداسة في الزمان الآخر ؛ بل قد عَلِمْنا من إخبار نبينا أن هذه الأرض بيت المقدس سوف تكون موئلاً لأهل الإيمان كلما تقارب الزمان .
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي ، فظننت أنه مذهوب به ، فأتبعته بصري ، فعمد به إلى الشام ، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) [ رواه أحمد (11/88) ، ح/6871 ، وقال أحمد شاكر : صحيح الإسناد ، ورواه الطيالسي بنحوه (2293) ]
ولكن في أي بقاع الشام ؟ ، يقول (عليه الصلاة والسلام) : (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها ، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله ، لا يضرهم من خذلهم ، ظاهرين على الحق ، إلى أن تقوم الساعة) [ رواه أبو يعلى ، وقال الهيثمي : رجاله ثقات ، انظر : مجمع الزوائد ، 10/63 ، 64 ] .
فمركز هذه الطائفة ، ورأس الحربة ، وموضع القلب منها ، هو بيت المقدس ، ويضاف إليهم المؤيدون من حول بيت المقدس ، والأقطار الأ&&& ،ً والذين عبر عن مكانهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وأكناف بيت المقدس ) .
وهذه الطائفة رغم الشدة والحصار ، إلا أنهم طائفة منصورة بإذن الله وهو ما أشار إليه حديث الطبراني في الكبير ، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند بإسناد حسن عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ) . واللأواء في اللغة : الشدة ، وقد يراد بها ضيق المعيشة وتعسر الكسب .
فعلى أرض بيت المقدس سيكون الجهاد الحقيقي ، وستكون الخلافة ؛ فعن أبي حوالة الأزدي (رضي الله عنه) قال : وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على رأسي أو قال : على هامتي ثم قال : (يا ابن حواله : إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة ، فقد دنت الزلازل ، والبلايا ، والأمور العظام) [ رواه أحمد في المسند ، 5/288 ، وأبو داود ، 3/41 (9) كتاب الجهاد (37) ، ح/2535 ، ورواه الحاكم في المستدرك ، 4/425 ، وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي ]
فأرض بيت المقدس رغم كل ما نرى سوف تكون بؤرة الأحداث العالمية القادمة ، ومنطلقاً لكتائب أهل الإيمان فيما يستقبل من الزمان ، ولا ينبغي أن يستغرب أهل الإسلام انبعاث شرارة الأمل من تلك الأرض التي كانت في غالب عمر الدنيا قبل الإسلام أرضاً للتوحيد والإيمان ، ثم كانت بعد البعثة النبوية معقلاً للقوة ومعقداً للعزة تحت راية القرآن .
وإذا كانت مكة هي مهبط الوحي ومهد الرسالة في عمر الإسلام في الزمن الأول ، فإن بيت المقدس هو حصن الإيمان وقلعته في الزمن الآخر . يقول (ابن تيمية) (رحمه الله) : (وقد دل الكتاب والسنة وما رُوي عن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، مع ما عُلم بالحس والعقل ، أن الخلق والأمر ابتداءً من مكة أم القرى ، فهي أم الخلق ، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض ، وهي التي جعلها الله قياماً للناس ، إليها يصلون ويحجون ، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم ، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم ، ودلت الدلائل المذكورة أن ملك النبوة بالشام ، والحشر إليها ، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر ، وهناك يحشر الخلق ، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام ، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس ، فأول الأمة خير من آخرها ، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أسرى بالنبي –صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) [ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج27 ، ص 43 44 ] .
وهذه الفضائل ليست متعلقة بآخر الزمان فقط ، بل إن مناقب بيت المقدس وما حوله من أرض الشام كانت تدفع على مر الزمان في تاريخ الإسلام إلى الانطلاق من تلك الأرض لإقامة الدين وإحياء الجهاد . يقول (ابن تيمية) (رحمه الله) أيضاً : (ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء ، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيض المسلمين على غزو التتار ، وأمري لهم بلزوم دمشق ، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر ، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام ، وتثبيت الشامي فيه) [ مجموع الفتاوى ، ج 27 ، ص 505 ] .
فإذا كانت أرض بيت المقدس وما حوله هي الصخرة التي تحطمت عندها أكبر التحديات في الماضي ، في ( حطين ، وعين جالوت) . فإن الطغيان اليهودي اليوم لن يطول أمده ، بل نهايته قد اقتربت ، فرجال الطائفة المنصورة يتحفزون للمعركة الفاصلة التي ستقصم ظهورهم وَ﴿يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * نَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾