المصالحة الوطنية و الطريق لما يعرف بإنهاء الإنقسام على الساحة الفلسطينية ، بات الهم الأكبر لمعظم المهتمين بالشأن الفلسطيني و خصوصاً الفلسطينيين أنفسهم، ومع كل بارقة أمل للمصالحة و رأب الصدع يكبر الأمل في إنجاز شيئ ما و لو كخطوة أولى في هذا الطريق، لكن حتى هذه اللحظة سرعان ما يتبدد الأمل بعدما تبدأ التفسيرات و تعود الشروط لتوضع من كل طرف لنصل في النهاية إلى طريق مسدود، فهل يا ترى نحن الآن أمام فرصة حقيقية لإعادة اللحمة للنظام السياسي الفلسطيني؟ أم ستكون نتيجة التحركات الأخيرة كسابقاتها أي الفشل؟
ففي الرابع من هذا الشهر، وبمناسبة ذكرى عدوان الخامس من حزيران 1967 ، خاطب محمود عباس الشعب الفلسطيني، مذيلاً هذا الخطاب بالدعوة لمصالحة وطنية لإنهاء الإنقسام، إلا أنه و بالرغم من خلو الخطاب من المصطلحات المعهودة كالإنقلاب الدموي و غيره، فإن فيه مجافاة للحقيقة و بوادر عدم الجدية في الوصول للهدف الذي يرنو إليه معظم الناس. و بالرجوع لنص الخطاب نجد فيه: "انطلاقا من الحرص على وحدتنا ومستقبلنا الوطني الواحد، وتجاوباً مع العديد من الدعوات الصادقة الفلسطينية والعربية والصديقة التي تدعو إلى إنهاء الانقسام وإعادة الأوضاع في قطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل 13 حزيران 2007، فأنني أدعو إلى حوار وطني شامل لتنفيذ المبادرة اليمنية بكل عناصرها كما قررت ذلك القمة العربية في دمشق"، مما يعني أن الرئاسة لا تجد أي خلل قد حصل إلا ما كان في غزة، وأنها لا تعير بالاً بإعلان صنعاء الذي هو معدل و ناسخ لبعض بنود الميادرة اليمنية، مما يزيدنا شكاً في مصداقية هذه الدعوة للحوار، لكننا نأمل بأن يكون ذلك عبارة عن التدحرج البطيئ من النزول من أعلى الشجرة التي تسلقتها الرئاسة وأبت النزول عنها مدعومة بلجنة تنفيذية مشكوك في شرعيتها.
المؤشرات الإيجابية:
إن هناك- وبلا شك - العديد من الأسباب الموضوعية و المنطقية التي تجعل المراقب يشعر بجدية التوجه لدى الرئاسة و حركة فتح لحوار حركة حماس لرأب الصدع من جديد، ومن ذلك:
- سقوط الرهان على الدعم الأمريكي لحلفائها في المنطقة، حيث تخلي الولايات المتحدة عن دعم الفريق الإنقلابي في فتح أثناء هزيمتهم من قبل حركة حماس في يونيو الماضي، وكذلك تخليها عن حلفائها في أحداث لبنان الأخيرة، لدرجة إغلاق المسؤولين الأمريكيين هواتفهم في وجه حلفائهم في بيروت و خصوصا وليد جنبلاط عقب دخول حزب الله بعض أجزاء بيروت.
- سقوط المشروع الأمريكي في المنطقة، والتي كانت سلطة فتح و الرئاسة و المنظمة تعول عليه، حيث لم تستطع إمريكا إغلاق أو إنهاء أي معركة بدأتها، لا في أفغانستان و لا العراق و كذلك فشل أذنابها كسب أي معركة كما حدث في هزيمة اليهود في الحرب السادسة بين لبنان و دولة العدو، وكذلك ما حصل في غزة في يونيو من العام الماضي، وما يحصل الآن في السودان و سوريا. بل يتبع هذا التخلي فضح لهم.
- تماسك قوى الممانعة في المنطقة متمثلة في سوريا و إيران، بجانب قوى المقاومة كالمقاومة في العراق و أفغانستان و فلسطين و لبنان.
- فشل الرهان على المفاوضات لاسترجاع الحقوق، فالمفاوضات لم تأت بجديد، بل جعلت الطرف الفلسطيني المفاوض في موضع الإتهام من الجميع بما فيها فتح نفسها.
- ضعف السلطة في الضفة و هشاشتها،وهو ما صرح به أكثر من مسؤول، فالعدو يدخل و ي&&& و يعتقل و يقتل في أي وقت تحت سمع و بصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية و أحيانا بالتنسيق معها.
- تشوه صورة محمود عباس و سلام فياض في نظر المواطن الفلسطيني، والنظر إليهما من البعض بأنهما الوجه الآخر من الإحتلال حيث أن المقاومين من شهداء الأقصى محتجزون في سجون السلطة حتى الآن في ظروف غير مريحة مما حذا ببعضهم بالتفكير بالإنتحار.
- فقدان المواطن في الضفة ثقته بقدرة الرئاسة و طاقم فياض في لجم الفساد، بل الأحداث تثبت عربدة وفلتان أمني حقيقي في الضفة شبيه بما كان في غزة قبل حزيران من العام الماضي، وما الأحداث العائلية في الخليل مؤحرا إلا مثالاً على ذلك، إضافة إلى ارتفاع الأسعار و نسبة الفقر و البطالة برغم المال المتدفق من كل حدب و صوب.
- ضعف ثقة الأطراف الأ&&& في المنظمة بإمكانية التوافق مع حركة فتح، للعقلية الهنجعية المتعالية التي ما زالت تخيم على عقول قادتها وأفرادها، وتجلى ذلك في صعوبة تشكيل الشبيبة لمجلس طلبة جامعة بيرزيت الأخير مع احتياجها لمقعد واحد فقط.
- إثبات حماس قوتها و شعبيتها في الضفة برغم المضايقات، وذلك تجلى في انتخابات جامعتي الخليل و بيرزيت و جامعة البولتكنك، حيث أن النتائج التي حصدتها الكتلة الإسلامية برغم الأجواء التي سادت تعبر أنها لا تعكس قوة حماس الحقيقية بل تعكس جزء من هذه القوة في الشارع، أي ما زالت القوة الأكبر في الشارع الفلسطيني
- فشل النموذج الذي تم التخطيط له، بجعل الضفة مزدهرة و غزة باسة، بل انقلب الأمر، فبؤس الضفة و أهلها لا يقل عن بؤس أهل غزة، برغم قلة الموارد و الحصار في غزة، وبرغم كثرة الأموال المتدفقة للضفة الغربية، إضافة إلى الفوضى الأمنية و الإرهاب التي تمارسه الأجهزة الأمنية.
- إثبات المقاومة نجاها و تصديها للعدو في غزة، وفرض نفسها كنموذج للخلاص من المحتل، وإثبات صدق رؤية و منطق أصحاب المنطق المقاوم الرافض للمفاوضات كحل استراتيجي.
- قدرة حماس على إدارة القطاع، رغم الحصار و قدرتها على فرض الأمن و سداد الفراغ الذي نشأ في معظم دوائر السلطة في غزة و خصوصاً الأمنية منها، لدرجة أن الصديق و العدو بدأ يشعر ببناء مؤسسة أمنية في غزة على أسس مهنية و لأول مرة منذ أوسلو.
- فشل الحصار و ظهور بوادر خرقه ، فأصبحت حماس أكثر صلابة و قوة، بل استطاعت خرق هذا الحصار في الآونة الأخيرة حيث تدفقت الوفود وما زالت تتدفق لغزة، وبدأت الدعوات تتعالى من النظام العربي الرسمي لرفع الحصار، بل إن دعوة دولة الإمارات لرئيس الوزراء إسماعيل هنية لزيارتها خطوة مهمة في هذا السياق، وخصوصاً أن الإمارات كانت مغلقة في وجه حماس.
- فشل الهدف الذي وضع من أجله الحصار، والذي تمثل بانتزاع مواقف انهزامية تمس الثوابت الوطنية التي تتمترس حولها حركة حماس، فلا اعتراف بما يسمى إسرائيل، ولا تنازل عن الحق في المقاومة، ولا تفاوض على القدس و التمسك بحق العودة وغيرها من الثوابت الوطنية
- إصرار حماس على مضيها في برنامجها الإصلاحي، حيث سن التشريعي العديد من القوانين برغم مقاطعة فتح و الآخرين للجلسات، وكذلك توسيع الحكومة و رفدها بست وزراء جدد لتحسين الأداء.
- تذمر حركة فتح من حكومة فياض، والضغط على أبي مازن لتوسيعها أو تغييرها، وكذلك الخلافات الداخلية التي تعصف بالحركة، والتي كان آخرها استقالة 1200 عنصر من عناصرها في نابلس.
- قرب انتهاء ولاية أبومازن وتصريح حماس بأنها لن تعترف بشرعية أبي مازن ابتداءا من صباح السادس من يناير من العام القادم، مما يفرض التحضير لللإنتخابات الرئاسية القادمة.
المؤشرات السلبية :
بالرغم المؤشرات السابقة و التي أظن أنها دفعت أبو مازن للحديث عن حوار وطني، إلا أن هناك بالمقابل بعض المعطيات التي تشكك في جدية محمود عباس في عرضه للمصالحة، منها:
- أن لغة الخطاب و إن كانت أخف من سابقاتها، لكنها تحتوي على ألغام، منها الإشارة إلآ ما حدث في غزة دون الضفة، والحديث عن المبادرة اليمنية كأساس للحل لا إعلان صنعاء و الفرق بينهما كفيل بنسف أي جهد للمصالحة.
- توقيت الإعلان، حيث تزداد وتيرة العدو في التهديد باجتياح القطاع قريبا،فبالرغم من العديد من الجراحات و المآسي التي تلقاها القطاع و آخرها المحرقة التي لم تزل مستمرة، لم نسمع من أبي مازن مثل هذا النداء. فهل يريد أبو مازن أن يكسب ثقة الناس من جديد و يظهر بمظهر الغير متورط بالإجتياح إن تم، لا سمح الله!
- المكالمة الهاتفية التي جرت بين محمود عباس و رايس بعد يوم من خطابه و الذي أكد فيها على عدم تغيير شروطه المتعلقة بالتفاوض مع حماس و خاصة بما يتعلق باحترام اتفاقيات منظمة التحرير.
- عدم اتخاذ الرئيس أي مبادرات تذكربما يخص تهيأة الأجواء للحوار، عدا الدعوة بوقف الحملات الإعلامية، والتي ما زال البعض يمارس نفس الألفاظ و الحملات السابقة، بل كان ينبغي على أبي مازن أن يوقف الإعتقالات و يفرج عن السجناء، بل على الأقل ألا يعتبرها- أي حماس- خارجة عن القانون.
- التفسخ الذي تعانيه حركة فتح، والذي يعني وجود - و بلا شك - من لا يمكن له أن يلتزم برأي القيادة و يتحامق من جديد و يتآمر على مصالح الشعب، أي أن محمود عباس أضعف من فرض نفسه على تنظيم حركة فتح.
- إمكانية استخدام محمود عباس دعوته هذه للحوار كورقة ضغط لا غير ضد الأمريكان و العدو الصهيوني لتسريع وتيرة المفاوضات و الخروج بأي نتيجة.
- عدم تغيير أبو مازن للطاقم المحيط به، وهو نفس الطاقم الذي استعان به لإدارة أمور المرحلة السابقة، مما قد يكون مؤشرا على عدم قناعة مؤسسة الرسالة و من فيها بأهمية المصالحة، مما ينذر بفشلها، كما هو الحال بالنسبة للطاقم المفاوض الذي لم يتغير رغم إخفاقاته منذ ما يقارب العقدين مما أدى و ما زال يؤدى لكوارث تمس الوطن و ثوابته.
- محاولة عباس و فتح رمي الكرة في ملعب حماس، بعدما أصبح معلوماً للقاصي و الداني أن المتعنت في مسألة المصالحة هو فريق رام الله مقابل دعوة حماس المستمرة لقبولها بالحوار. وبذلك تنقلب الصورة في نظر الداخل و الخارج فتتجمل صورة محمود عباس و فتح و تسوأ سورة حماس.
مما لا شك فيه أن المؤشرات الإيجابية المذكورة أقوى منطقا و أكثر موضوعيةًً، لكن تبقى المؤشرات السلبية عوائق و ألغام ممكنة في طريق المصالحة المأمولة من معظم الشعب الفلسطيني و العربي، وهذا يعطينا الحق بأن نبقى متوجسين حتى إثبات كل مؤشر لقدرته على الصمود أمام الآخر، وهذا ما ستفسح عنه الأيام المقبلة والتي ستثبت أي المؤشرات أصح ، مع أملنا بأن تكون الغلبة للمؤشرات الإيجابية التي تعني حقيقة النية الصادقة من قبل أبو مازن و حركة فتح لمصالحة وطنية حقيقية.
...