لم تعهد هيئة برلمانية إسلامية أو عربية أن يتنافس أعضاؤها على حفظ القرآن الكريم كما هو في الحالة الفلسطينية وتحديداً بين أعضاء كتلة التغيير والإصلاح ومنهم المختطفون القابعون خلف القضبان في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.
فكتاب الله وهو كلامه عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو حبل الله الممدود إلى الأرض من تمسك به فقد فاز ونجا، وفضائله التي لا تُحاط، وعجائبه التي لا تنقضي، وعلومه التي لا تنتهي، كل ذلك المحفز والدافع للتنافس على حفظه بين المختطفين من ممثلي الشرعية الفلسطينية خاصة وأسرى الشعب الفلسطيني وبالتحديد أسرى الحركة الإسلامية.
فبالرغم من ضيق السجن وظلماته وضغوطه النفسية على الأسرى وتعرضهم لسوء المعاملة وسوء العلاج وسوء التغذية من السجان، إلا أنّ المؤمن يجعل من محنته منحة ويصنع من ضعفه وظروف عيشه الصعبة انتصاراً فيتفرغ لتحسين وتعزيز علاقته مع الله عز وجل، فيجد في ذلك متعة وهو الذي يجعل من سجنه خلوة مع الله سبحانه وتعالى.
إن الحركة الإسلامية الأسيرة بشكل خاص وفي كافة السجون والمعتقلات لديها من الخطط والبرامج الدورية المتجددة لتعليم تجويد وتحفيظ القرآن الكريم والتي تأتي في سياق برامجها وخططها التربوية والثقافية للارتقاء بعناصرها ومؤيديها، حيث أن كل عنصر ينضوى ويقبل بالعيش تحت إطار الحركة الإسلامية مطالب بالالتزام ببرامج تعليم القرآن ترتيلاً وتجويداً وحفظاً، وتضع الحركة محفزات كثيرة ومختلفة من خلال عقد المسابقات لذلك الغرض حتى أصبحت ظاهرة المنافسة على حفظ القرآن الكريم بين المجاهدين صفة لازمة ومتجذرة في مسيرة الحركة، وأصبحت سياسة لها ضوابطها وبرامجها في التعليم والتحفيظ والتسميع والتثبيت.
هؤلاء الأسرى الذين ترنو نفوسهم إلى حفظ كتاب الله يحرصون كل الحرص ليستفيدوا من هذه البرامج ويشاركوا في المسابقات التي تعقد دورياً وبالقليل الدائم بمعدل جزء في السنة، المهم أن يكون هناك مواظبة وجهد مبذول حتى عند الذين يستصعبون الحفظ بسبب أو آخر، فالغالبية ممن يريدون ويسعون إلى الرشاد وطلب السداد في حفظ كتاب الله.
ومن أشهر الحفظة في أوساط الحركة الأسيرة شيخ قراء الأسرى المجاهد ظاهر ربحي قبها والمجاهد سعيد بدارنة المحكوم مدى الحياة والاثنان مضى على اعتقالهما أكثر من خمسة عشر عاماً على خلفية عملية الخضيرة بتاريخ 17/4/1994 التي نفذها الشهيد عمار عمارنة والتي جاءت ضمن سلسلة الرد على مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف، وجديد بالذكر أن العشرات من أبناء الحركة الإسلامية قد أتقنوا حفظ كتاب الله وأفرج عنهم بعد انتهاء محكومياتهم وأن العشرات أيضاً ما زالوا في بطن الحوت حافظين لكتاب الله.
لقد عايشت ممثلي الشرعية الفلسطينية خلف القضبان يهتمون بكتاب الله ودراسته تعلماً وتعليماً .. اقتفاءً وعملاً وفق برامج وضعوها لأنفسهم وهم يبذلون الجهد لينالوا ما قُدِّر لهم من تلاوةٍ أو تدبرٍ أو استنباطٍ أو حفظ، وهذا ليس بغريب على أناس ينظرون إلى الإسلام كدين ودنيا، عقيدة وشرعية ومنهاج حياة، وحسب المرء شرفاً أن يحمل كتاب الله ويدعو إليه.
إن الحافظ للقرآن الكريم، العامل به المتخلق بأخلاقه وآدابه، القائم به، المُرتّل له آناء الليل وأطراف النهار من الأخيار الأبرار، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال أيضاً:"إن لله أهلين من خلقه، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام.
حقاً إنه لفضل كبير، وإنها لمنزلة يرنو إليها كل عبدٍ مؤمنٍ يبتغي التوبة والطاعة ورضوان الله، وما أعظمها من منزلة أن يكون الإنسان من أهل الله، ويا له من عزٍ ومجدٍ أن يُكرم الإنسان هذا الإكرام المجيد. فالحفظة لكتاب الله والعاملون به والمرتلون له سيُلبسُهُم الله عز وجل تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، هؤلاء مع السفرة والكرام، من يدرك هذه المنزلة العالية إلا أمثال الرجال العظماء، فالإمام المرشد والمؤسس الشهيد أحمد الياسين رحمه الله حفظ القرآن في سجنه، وأسد فلسطين الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي رفض عام 1990، أن يقف احتراماً ويسلم على مدير معتقل النقب الصحراوي (كتسيعون) المدعو شالتئيل كما فعل ممثلو الفصائل الأ&&& حيث كان الرنتيسي يومها ممثلاً لحماس في المعتقل، فعاقبه مدير المعتقل بالعزل والحبس الانفرادي لمدة أربعة شهور، وما أن انتهت فترة العقوبة حتى كان الرنتيسي رحمه الله قد حفظ كتاب الله كاملاً.
كما أن الشيخ و المجاهد الكبير محمد أبو طير " أبو مصعب الخير" عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن محافظة القدس والمختطف حالياً مع إخوانه ممثلي الشرعية الفلسطينية، قد أتمّ حفظ القرآن الكريم خلال سنوات سجنه الأولى، ومن الجديد بالذكر أن أبو مصعب الخير قد أمضى حتى الآن وعلى مدار خمس سجنات سبعا وعشرين سنة اقتطعتها وطحنتها رحى السجن من عمره المديد عندما كانت البداية عام 1970م بعد عودته من الدراسة الجامعية في بيروت.
فيا لعظمة الرجال عندما يكون سجنهم خلوة مع الله سبحانه وتعالى وفرصة سانحة لحفظ كتاب الله عز وجل، فعلى خطى الياسين والرنتيسي وأبو طير ها هم ممثلو الشرعية الفلسطينية ينكبون على حفظ القرآن الكريم، وخلال الشهرين الماضيين (شباط وآذار) فقط أتمّ رمز الشرعية الفلسطينية ورئيسها الدكتور عزيز دويك حفظ القرآن الكريم، وكذلك الأمر بالنسبة لشاعر الحركة الإسلامية الأستاذ خالد سعيد "يحيى" أبو همام والنائب عن محافظة جنين، والوزير المهندس عيسى خيري عيسى الجعبري"أبو خيري" من الخليل، والأستاذ محمد عمران طوطح "أبو معاذ" النائب عن القدس، والأستاذ باسم أحمد الزعارير "أبو أحمد" النائب عن الخليل، جميعهم قد أتموا حفظ كتاب الله عز وجل، وقد قام الحافظ لكتاب الله الأستاذ ماهر بدر "أبو عبادة" والمدرس في جامعة الخليل والمنتخب نائبا عنها بمنحهم إجازة في الحفظ والقراءة والإقراء بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لا يستطيع القيام بمثل هذه المهمة إلا من كان لديه السند من قارئ وشيخ معتمد عن شيخ وقارئ معتمد حتى تصل السلسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل عليه بالفعل شيخنا وأستاذنا أبو عبادة من سند إجازة عن شيخه عام 1993م بعد أن حفظ القرآن كله وضبط الحفظ ضبطاً أهله لأدائه إلى غيره على قواعد التلاوة وأسس التجويد المعروفة، وأشير أيضاً إلى أن أصغر الأعضاء سناً في المجلس التشريعي الفلسطيني الأستاذ محمود خطيب من حفظة القرآن الكريم، وهو خطيب بقوة أيضاً ونائب عن محافظة بيت لحم ويقبع في سجن بئر السبع، كما وأشير أيضاً أن هناك ثلاثة نواب على وشك الحفظ، بالإضافة إلى العدد الأكبر الذي يحفظ ثلثي ونصف وثلث القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم في صدور هؤلاء الشرفاء آياتٍ بيّنات وضاحة الدلالة على الحق أمراً ونهياً وخبراً، فقط أكرمهم المولى عز وجل بأن يسره عليهم حفظاً وتلاوةً وتفسيراً، هؤلاء الذين حَباهم الله بعلو الهمة فانصرفوا إلى حفظ القرآن المجيد، فلا تكاد تجد ممثلاً للشرعية الفلسطينية خلف القضبان يحفظ أقل من سبعة أجزاء، وبلا أدنى شك أن هذا يبعث على الفخر والاعتزاز أن يُتقِن ويستوعب هؤلاء القرآن الكريم وأحكامه قراءة وتجويداً.
إن الشعب العظيم الذي اختار رجالا عظماء ليمثلوه من أبناء كتلة التغيير والإصلاح الذي يتعاهدون القرآن الكريم ليفخر بهم كنماذج تجسد صلاح القادة وينظر إليهم نظرة إعجاب وتقدير وإجلال وإكبار ويغبطهم على ما أتاهم الله من فضله وكرمه، وهل هناك أعظم وأفضل من الغِبطة على حفظ كتاب الله.
إن التاريخ الإسلامي والعربي والفلسطيني سيسجل صفحات وضاءة وبمداد الذهب أن ممثلي الشرعية الفلسطينية من كتلة التغيير والإصلاح هم من حفظة كتاب الله وهذه مكرمة لا يحظى بها إلا المجتبين الأخيار وقليل ما هم في هذا الزمن والمرحلة، ورب العزة يقول " .. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، إن القرآن الكريم المحفوظ في صدور هؤلاء الرجال، والمُيسر على ألسنتهم والمهيمن على قلوبهم سيكون وبإذن الله شفيعاً لهم يوم القيامة، فهنيئاً لمن يحفظ القرآن ويعمل به ويتصدى لتعليمه، وإذا كان بعض أجلة الصحابة لم يُكمل حفظ القرآن الكريم مع فضلهم وسبقهم فإن مردّ ذلك إلى أمور وأسباب كثيرة، فإن الذين حفظوا القرآن وأتقنوه مع الأحكام والتجويد من الصحابة والتابعين وغيرهم كثير، ومنهم نجوم الشعب الفلسطيني وممثلوه الشرعيون وألمع الأسماء فيه الذين غيّبهم الاحتلال قسراً خلف القضبان، فهنيئاً لكم وبإذن الله الفوز بسعادة الدارين، والأيام القادمة ستثبت أكثر من هو الأصيل ومن هو الطارئ الدخيل، ومن الذين يهتم بعظائم الأمور عن تفاهات الدنيا وسفاسف أمورها ومن الذي يضحي ويخدم ويقدم ويتصرف بعقلية الجندي المجهول.
إن مثلكم الحسن أيها الرجال الرجال، وسلوككم القويم الذي تجلله هيبة ووقار حفظكم لكتاب الله سيزيدكم عظمةً وعلواً، فأنتم الذين شرفكم الله بتعاهد القرآن الكريم ولم تغفلوا عنه، وها أنتم اليوم تقرؤونه على ظهر لسان وعن ظهر قلب، فحملكم لكتاب الله واستطهاركم له يجعل منكم مصاحف تدب وتمشي على الأرض ويجعل الواحد منكم قرآنا يسير بين الناس، فالأجر العظيم ، ورفعة الشأن، والتميز في الدنيا والآخرة ، وهو حصار تجارتكم مع كتاب الله، فهنيئاً لكم هذه المكرمات وهنيئاً لكم ما أعده الله لكم من دار الكرامة..
ربحت تجارتكم، ومبارك لكم حفظ القرآن الكريم..